Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التدريس والتعلم

أيقونة الشعر العربي في العهد الأموي


لأنَّنا تحدَّثنا في مقالات سابقة عن “جرير” و”الفرزدق”، سنفرد هذا المقال للحديث عن “الأخطل” الذي لم تكن مسيرته بوصفه شاعراً بعيدة عن مسيرة صاحبيه، فلقد شحذ لسانه للهجاء مثلهما، وكاد مرات كثيرة أن يفقد لسانه ورأسه بسبب هجائه المقذع، لكن ما شفع له كان تلوُّن لسانه إلى الحلاوة في المديح والإطراء على الملوك، فنال بذلك الحماية من مصير كان يستحقه ربما بسبب سلاطة لسانه، فمن هو هذا الشاعر المتهور؟ من هو “الأخطل”؟

نبذة عن الأخطل:

الشاعر “الأخطل” هو “أبو مالك غياث بن غوث” من قبيلة “تغلب” الذي وُلد عام 640 ميلادي؛ أي في أواخر سنوات خلافة الخليفة “عمر بن الخطاب”، ونشأ “الأخطل” في “دمشق” التي كانت مركز الدولة الأموية في فترة شبابه، وفيما بعد أصبح شاعرها الرسمي.

بحسب الروايات فإنَّ “الأخطل” قد حمل لقبه هذا في صباه، ومعنى هذا اللقب “الأحمق”، أو “طويل الأذنين”، وأما عن قصة هذا اللقب فقيل إنَّ الشاعر “كعب بن جعيل” هو من أطلقه عليه، وكان شاعر “تغلب” الأول حينها؛ إذ كان الشاعر في ديار “مالك بن جشم” وقوم “الأخطل”، فأكرموه وأهدوه أغناماً كما هي عادات العرب، ولكنَّ هذا الترحيب لم يعجب “غياثاً”، فردَّ الأغنام إلى المرعى أمام عيني الضيف، فقال “كعب”: “إنَّ غلامكم هذا لأخطل”، وذهب اللقب معه بقية حياته.

الجدير بالذكر أنَّ “الأخطل” لم يفوِّت هذا الموقف لـ “كعب”، وهجاه بطريقة مقذعة على الرغم من فرق السن والشعر بينهما، ومن خلال هذه الحادثة نستطيع استشفاف شخصية “الأخطل”، فنراه واثقاً بنفسه، قوي الشخصية، معتدَّاً بما لديه، غير آبه بدخول مواجهة مع من هم أقوى منه وأعلى شأناً ليثبت جدارته، ولا تخلو شخصيته من الطيش، وهذا ما يظهر بوضوح أيضاً في مسيرة حياته.

حياة الأخطل:

قضى “الأخطل” جزءاً طويلاً من حياته في بلاط الملوك والخلفاء، فعلى الرغم من أنَّه وُلد في “الحيرة” في “العراق”، إلا أنَّ معظم حياته كانت في “دمشق”، وأكثر الأخبار التي وردت عنه تتعلق بحياته الأدبية، حتى إنَّ المعلومات الشخصية عنه شحيحة، إذاً فإنَّ “الأخطل” كان شاعر بلاط في العصر الأموي، وقضى حياته متنقلاً بين “دمشق” و”جزيرة الفرات” مسقط رأسه، وظل هكذا حتى آخر أيامه.

من الجدير بالذكر أنَّ “الأخطل” لم يكن يوماً رجلاً معروفاً أو صاحب مكانة مرموقة، فهو من أب تغلبي عادي، وأم لم تذكر المصادر عنها أكثر من كونها حانية ومحبة له، وكان “الأخطل” من عائلة مسيحية لم تعلن إسلامها، ولكنَّها في الوقت عينه لم تتمتع بالالتزام الديني المسيحي.

يروى أنَّ والده قد تزوج امرأة ثانية مع أمه، وهذا أمر محرَّم في الديانة المسيحية، وذكر أيضاً أنَّ زوجة الأب لم تكن تعامل “الأخطل” معاملة جيدة، وكانت تُميِّز أبناءها عنه وتُفضِّلهم عليه في التعامل.

إذا ما أردنا الحديث عن المكانة التي صنعها “الأخطل” لنفسه وتباهى بها بين الشعراء فهي انتماؤه إلى “تغلب” تحديداً، فكان تفاخره القبلي أكبر من فخره بأبيه، وهذا ما حرص على ذكره في بلاط الخلفاء؛ إذ كان يغتنم كل فرصة تتيح له التلفظ باسم “تغلب” ويمدحها ويعلي شأنها، حتى اشتد عودها وتفوقت على أعدائها “بني قيس”.

أما بالنسبة إلى حياة “الأخطل” الأدبية، فإنَّ الهجاء كان أكثر ما اشتُهر به، فكان عوناً للخليفة الأموي “يزيد” للرد على جماعة من الأنصار هجوه وهجوا والده، وطعنوا بعرضه وشرفه واتهموا أخته بعلاقة غرامية معهم، فطلب الخليفة من “الأخطل” هجاءهم، وعلى الرغم من أنَّه نصراني مثلهم، إلا أنَّه لم يتردد لحظة في تلبية مطالب الخليفة، فهجاهم أقذع هجاء أشفى غليل الخليفة؛ إذ عرف كيف يختار من الألفاظ ما يحرجهم ويهينهم ويحط من قدرهم، وكانت هذه الحادثة هي السبب في تقريبه من بلاط الخليفة الأموي.

إذاً، فإنَّ الحياة الأدبية للشاعر “الأخطل” كانت غنية ومتشعبة، ففيها مديح بلاط بني أمية ومدح حلفائهم وهجاء أعدائهم، وفيها الفخر بـ “تغلب”، وفيها أيضاً الهجاء، وكما قلنا يجب ذكر “الأخطل” عندما نذكر “الفرزدق” و”جرير”، فهم أشعر شعراء العصر الأموي.

“الأخطل” على وجه التحديد كان كثير الاهتمام بشعره، ويحرص على أن تكون مفرداته – أياً كان موضوعها – منتقاة وقوية وجزلة، وقد عَدَّ بعض النقاد قصائد “الأخطل” مصدراً من مصادر اللغة العربية؛ إذ كان ذا ثقافة موسوعية، وصاحب مقدرة مبهرة في نقل الوقائع والأخبار بلغة قوية منمَّقة.

في حرب “الفرزدق” و”جرير” كان “الأخطل” ميالاً لـ “الفرزدق” ضد جرير، وكان الشعر باب رزقه؛ إذ جنى مالاً كثيراً من بلاط الملوك وتطويع مهاراته في الفصاحة والبلاغة، فكان يتقاضى منهم الأموال لقاء التغني بأمجادهم وهجاء أعدائهم، فذاع صيته وتناقلت الأجيال أشعاره، وصار مضرب المثل في البلاغة والفصاحة.

إقرأ أيضاً: الشعر في العصر الجاهلي: نشأته وخصائصه وأغراضه وأبرز شعرائه

شعر الأخطل:

قضى “الأخطل” جل حياته ينظم الشعر، لا سيما أنَّه كان مصدر رزقه، ولذلك نجد أنَّ رصيده الشعري ضخم جداً، فقد ترك أكثر من 157 قصيدة شعرية، وجُمعت جميع قصائده في ديوان تمت طباعته، ويكاد لا يخلو كتاب من كتب الشعر العربي من قصائده، عدا عن الدراسات التي خصَّت شعره ووضعته تحت النقد والتدقيق، وفيما يأتي أبرز قصائده:

1. قصيدة في الهجاء:

أَلَم تَشكُر لَنا كَلبٌ بِأَنَّا

جَلَونا عَن وُجوهِهِمِ الغُبارا

كَشَفنا عَنهُمُ نَزَواتِ قَيسٍ

وَمِثلُ جُموعِنا مَنَعَ الذِّمارا

وَكانوا مَعشَراً قَد جاوَرونا

بِمَنزِلَةٍ فَأَكرَمنا الجِوارا

فَلَمَّا أَن تَخَلَّى اللَّٰهُ مِنهُم

أَغاروا إِذ رَأوا مِنَّا اِنفِتارا

فَعاقَبناهُمُ لِكَمالِ عَشرٍ

وَلَم نَجعَل عِقابُهُمُ ضِمارا

وَأَطفَأنا شِهابَهُمُ جَميعاً

وَشُبَّ شِهابُ تَغلِبَ فَاستَنارا

تَحَمَّلنا فَلَمَّا أَحمَشونا

أَصابوا النارَ تَستَعِرُ اِستِعارا

وَأَفلَتَ حاتِمٌ بِفُلولِ قَيسٍ

إِلى القاطولِ وَانتَهَكَ الفِرارا

جَزَيناهُم بِما صَبَحوا شُعَيثاً

وَأَصحاباً لَهُ وَرَدوا قَرارا

وَخَيرُ مَتالِفِ الأَقوامِ يَوماً

عَلى العَزَّاءِ عَزماً وَاِصطِبارا

فَمَهما كانَ مِن أَلَمٍ فَإِنَّا

صَبَحناهُم بِها كَأساً عُقارا

فَلا راذانُ تُدعى فيهِ قَيسٌ

وَلا القاطولُ وَاقتَنَصوا الوِبارا

صَبَرنا يَومَ لاقَينا عُمَيراً

فَأَشبَعنا مَعَ الرَّخَمِ النِّسارا

وَكانَ اِبنُ الحُبابِ أُعيرَ عِزَّاً

وَلَم يَكُ عِزُّ تَغلِبَ مُستَعارا

فَلا تَرجوا العُيونَ لِتَنزِلوها

وَلا الرَّهَواتِ وَاِلتَمِسوا المَغارا

وَسيري يا هَوازِنُ نَحوَ أَرضٍ

وَلَم يَكُ عِزُّ تَغلِبَ مُستَعارا

فَإِنَّا حَيثُ حَلَّ المَجدُ يَوماً

حَلَلناهُ وَسِرنا حَيثُ سارا

2. قصيدة في المدح:

نِعمَ المُجيرُ سِماكٌ مِن بَني أَسَدٍ

بِالمَرجِ إِذ قَتَلَت جيرانَها مُضَرُ

في غَيرِ شَيءٍ أَقَلَّ اللَّٰهُ خَيرَهُمُ

ما إِن لَهُم دِمنَةٌ فيهِم وَلا ثُؤَرُ

إِنَّ سِماكاً بَنى مَجداً لِأُسرَتِهِ

حَتَّى المَماتِ وَفِعلُ الخَيرِ يُبتَدَرُ

قَد كُنتُ أَحسِبُهُ قَيناً وَأُنبَؤُهُ

فَاليَومَ طَيَّرَ عَن أَثوابِهِ الشَّرَرُ

لَم يُلهِهِ عَن سَوامِ الخَيرِ قَد عَلِموا

أَمرُ الضَعيفِ وَلا مِن حِلمِهِ البَطَرُ

أَبلى بَلاءَ كَريمٍ لَن يَزالَ لَهُ

مِنهُ بِعاقِبَةٍ مَجدٌ وَمُفتَخَرُ

تُضيءُ في اللَّيلَةِ الظَّلماءِ سُنَّتُهُ

كَما يُضيءُ لِمَن يَسري بِهِ القَمَرُ

فَإِن يَكُن مَعشَرٌ حانَت مَصارِعُهُم

مَنى لَهُم غَيرَ ماني مُنيَةٍ قَدَرُ

فَقَد نَكونُ كِراماً ما نُضامُ وَقَد

يَنمي لَنا قَبلَ مَرجِ الصُفَّرِ الظَّفَرُ

وَالخَيلُ تَشتَدُّ مَعقوداً قَوادِمُها

تَعدو وَتَمتَخِضُ الأَكفالُ وَالسُّرَرُ

عَشِيَّةَ الفَيلَق الخَضراء تَحطِمُهُم

ما إِن يُواجِهُها سَهمٌ وَلا حَجَرُ

3. قصيدة في الغزل:

بانَت سُعادُ فَفي العَينَينِ مَلمولُ

مِن حُبِّها وَصَحيحُ الجِسمِ مَخبولُ

فَالقَلبُ مِن حُبِّها يَعتادُهُ سَقَمٌ

إِذا تَذَكَّرتُها وَالجِسمُ مَسلولُ

وَإِن تَناسَيتُها أَو قُلتُ قَد شَحَطَت

عادَت نَواشِطُ مِنها فَهوَ مَكبولُ

مَرفوعَةٌ عَن عُيونِ الناسِ في غُرَفٍ

لا يَطمَعُ الشُّمطُ فيها وَالتَنابيلُ

يُخالِطُ القَلبَ بَعدَ النَّومِ لَذَّتُها

إِذَ تَنَبَّهَ وَاعتَلَّ المَتافيلُ

يُروي العِطاشَ لَها عَذبٌ مُقَبَّلُهُ

في جيدِ آدَمَ زانَتهُ التَّهاويلُ

حَليٌ يَشُبُّ بَياضَ النَّحرِ واقِدُهُ

كَما تُصَوَّرُ في الدَّيرِ التَماثيلُ

أَو كَالعَسيبِ نَماهُ جَدوَلٌ غَدِقٌ

وَكَنَّهُ وَهَجَ القَيظِ الأَظاليلُ

غَرَّاءُ فَرعاءُ مَصقولٌ عَوارِضُها

كَأَنَّها أَحوَرُ العَينَينِ مَكحولُ

أَخرَقَهُ وَهوَ في أَكنافِ سِدرَتِهِ

يَومٌ تُضَرِّمُهُ الجَوزاءُ مَشمولُ

فَسَلِّها بِأَمونِ اللَّيلِ ناجِيَةٍ

فيها هِبابٌ إِذا كَلَّ المَراسيلُ

قَنواءَ نَضَّاخَةِ الذِّفرى مُفَرَّجَةٍ

مِرفَقُها عَن ضُلوعِ الزَّورِ مَفتولُ

وفاة الأخطل:

توفي الشاعر “الأخطل” على فراشه عن عمر ناهز 70 عاماً، وكان ذلك في العام 92 للهجرة والموافق للعام 710 للميلاد، وتحديداً في السنة الخامسة لخلافة “الوليد بن عبد الملك”.

لم يذكر التأريخ أيَّة معلومات إضافية عن وفاته، إلا أنَّه قد مات على الأرجح في الجزيرة الفراتية بين أهله وذويه من بني “تغلب” الذي طالما خلَّدهم بقصائده الحسان، واعتز بهم أمام كبار القوم، وتفاخر بهم على صغاره.

في الختام:

كانت هذه مسيرة حياة الشاعر الفذ “الأخطل” الذي كانت قصائده علامة فارقة في سجل الشعر العربي، ففيها من التنوع والغنى ما يبهر العقل، فرأيناه في الغزل رقيقاً مرهفاً، وفي المديح صاحب عين نافذة لا تكل من رؤية خصال ممدوحه، وفي الهجاء سيفاً بتاراً يقطع الرؤوس ويقطِّر الدماء بغير نصل، ولا يسعنا في ختام هذا المقال إلا أن نفخر بلغتنا العربية وشعرائها العظماء الذين استطاعوا تطويع مفرداتها وتشكيلها كأنَّها عجينة من السكر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى