من هو ابن زيدون؟ نسبه وحياته وشعره
سنتعرَّف في مقالنا اليوم إلى أشهر شعراء العصر الأموي وما بعده، وهو ابن زيدون، الذي أدهشنا بإحساسه المرهف ورقة كلماته تارة وقساوتها وشدتها تارة أخرى، فكانت أشعاره ورسائله مرآة واضحة لمدى ثقافته وشدة حنكته وذكائه، فقط تابع معنا لتعرف أكثر من هو ابن زيدون.
نبذة عن ابن زيدون:
يعد ابن زيدون من أبرز شعراء العصر الأندلسي، فهو أعظم شاعر إشبيلي، وُلد شاعرنا في قرطبة عام 1003 للميلاد، وتعود أسرته إلى بني مخزوم، تلقَّى الأدب والشعر وعلوم اللغة العربية منذ ريعان شبابه على يد والده وعلماء قرطبة الذين كانوا منارةً للعلم واللغة والشعر والحكم والطرب آنذاك.
حفظ ابن زيدون الشعر والأمثال العربية والسِّيَر وغيرها مما يخص اللغة والأدب العربي، واشتهر بالمجالس الأدبية بخفة الظل والدعابة، وكانت تدير هذه المنتديات نساء ذوات مكانة رفيعة اجتماعيَّاً، ومن بين هذه النساء ولَّادة بنت المستكفي، والتي تنافس على الفوز بقلبها ابن زيدون مع ابن عبدوس.
استفرد ابن زيدون في شعره بوصف حُسن ولَّادة وتعبيره عن عشقه لها، وشارك ابن زيدون في الثورة التي أقامها ابن جهور ضد الخليفة الأخير لبني أمية، والتي لم تنجح حتى اتَّخذه الخليفة شاعراً خاصاً له.
حياة ابن زيدون:
عُرِف عن ابن زيدون منذ طفولته شخصيته البارزة عند تعامله مع الناس، وقد كان سياسيَّاً مشهوراً وشاباً يافعاً طموحاً، قضى فترة صباه في قرطبة عندما كانت في أسوأ ظروفها، ففي وقتها كانت الخلافة الأموية على وشك الانهيار في الأندلس، بسبب القتال على الخلافة، وبروز الفتن والاضطرابات.
كان له الفضل في إقامة دولة بني جهور في قرطبة، ومن ناحية أخرى فإنَّ مشاركته في ثورة أبي حزم ضد آخر خلفاء بني أمية كان لها دور كبير في حياته، فقد أصبح بعدها شاعر بلاط الملك الخاص، كما استلم الوزارة آنذاك، لكن الحال لم يدم طويلاً فانقلب ابن جهور عليه وأدخله السجن، والسبب هو اتهامه لابن زيدون بأنَّه يميل إلى المعتضد بن عباد.
بدأ ابن زيدون بكتابة الأشعار لاستعطاف ابن جهور، لكنَّه فشل في ذلك، بعد ذلك استطاع الهروب إلى إشبيليا واللجوء إلى المتعضد، فولَّاه الوزارة وحمَّله كثيراً من المهام على عاتقه مما يخص أمور القصر والدولة، وبقي ابن زيدون في إشبيليا حتى وفاته في عهد المعتمد على الله ابن المعتضد.
شعر ابن زيدون:
سطع اسم ابن زيدون في الأدب العربي، فقد صوَّر بأشعاره الرقيقة أسمى معاني الحب والتفاني، فكانت بذلك أشعاره محطَّ نظر جميع النقاد والمهتمين بالأدب، وفيما يأتي إليكم بعض من قصائد ابن زيدون:
1. قصيدة “ما ضرَّ لو أنَّك لي راحم”:
ما ضرَّ لو أنَّكَ لي راحِمُ
وعِلَّتي أَنت بِها عالِمُ
يَهنيكَ يا سؤلي وَيا بُغيَتي
أَنَّكَ مِمَّا أَشتكي سالمُ
تَضحَكُ في الحُبِّ وَأَبكي أَنا
اللَهُ فيما بَينَنا حاكِمُ
أَقولُ لَمَّا طارَ عَنِّي الكَرى
قَولَ مُعنَّىً قَلبُهُ هائِمُ
يا نائِماً أَيقَظَني حُبُّهُ
هَب لي رُقاداً أَيُّها النائِمُ
2. قصيدة “إنِّي ذكرتك بالزهراء مشتاقا”:
إنِّي ذكَرتُكِ بالزهراء مُشتاقا
وَالأُفقُ طَلقٌ وَمَرأى الأَرضِ قَد راقا
ولِلنَسيمِ اِعتِلالٌ في أَصائلِهِ
كَأَنَّهُ رَقَّ لي فَاعتَلَّ إِشفاقا
وَالرَوضُ عَن مائِهِ الفِضِيِّ مُبتَسِمٌ
كَما شَقَقتَ عَنِ اللَبَّاتِ أَطواقا
يَومٌ كَأَيَّامِ لَذَّاتٍ لَنا انصرمَت
بِتنا لَها حينَ نامَ الدَهرُ سُرَّاقا
نَلهو بِما يَستَميلُ العَينَ مِن زَهَرٍ
جالَ النَدى فيهِ حَتَّى مالَ أَعناقا
كأَنَّ أَعينَهُ إِذ عايَنَت أَرَقي بَكَت
لِما بي فَجالَ الدَمعُ رَقراقا
وَردٌ تأَلَّقَ في ضاحي منابتهِ
فَازدادَ مِنهُ الضُحى في العَينِ إِشراقا
3. قصيدة “أيوحشني الزمان وأنت أنسي”:
أَيوحِشُني الزَمانُ وَأَنتَ أُنسي
وَيُظلِمُ لي النَهارُ وَأَنتَ شَمسي
وَأَغرِسُ في مَحَبَّتِكَ الأَماني فَأَجني
المَوتَ مِن ثَمَراتِ غَرسي
لَقَد جازَيتَ غَدراً عَن وَفائي
وَبِعتَ مَوَدَّتي ظُلماً بِبَخسِ
وَلَو أَنَّ الزَمانَ أَطاعَ حُكمي
فَدَيتُكَ مِن مَكارِهِهِ بِنَفسي
خصائص شعر ابن زيدون:
يعد ابن زيدون من شعراء العصر الأندلسي المحنكين وذوي الخبرة من الناحية الأدبية، خصوصاً فيما يتعلق بجزالة الألفاظ ومتانة التراكيب، وإليكم أهم خصائص شعر ابن زيدون:
- تميز شعر ابن زيدون بنظمه على البحر الطويل والقصير والكامل، وتمتعت القصائد بمعانٍ حقيقية واقعية بعيدة عن التكلف.
- البعد عن التكرار وإيصال الفكرة برقة ولطافة، فقصائده معظمها غزلية وتحببية تقرباً من ولَّادة، الأمر الذي أكسبها وقعاً صادقاً حساساً ورقيقاً على وقع السامع بحسب رأي النقاد والمهتمين بالأدب.
- الالتزام بقواعد السابقين في الشعر وعدم الخروج عنها، الأمر الذي جذب أغلب المهتمين بالشعر له، فكان شعره مزيجاً ما بين الماضي والحاضر، واتبع فيه قواعد السابقين، وأضاف لمسته الإبداعية الخاصة به، فأثمر ذلك بقصائد لأغراض متنوعة برز الغزل فيها، والذي أوضح صدق مشاعر ابن زيدون وشفافيته.
- ركَّز ابن زيدون على الالتزام بغرض واحد للشعر في قصائده، وابتعد عن التنوع، وذلك لجذب القارئ أكثر والتركيز على إيصال مشاعره بصورة صادقة.
وفاة ابن زيدون:
توفي ابن زيدون في إشبيليا عام 1070، عن عمر ناهز 68 سنة، قضاها بالعطاء والمحبة للشعر والأدب، فبرع بكل خصائص الأدب العربي، وكانت ألفاظه جزلة ومعبرة واستطاعت أن تصل للقارئ بخفة وسهولة.
قصائد ابن زيدون:
كتب ابن زيدون 26 قصيدة تميزت بطابعه الخاص الفريد من نوعه، وأبرز تلك القصائد هي:
- ذكرى أيام الوصال.
- ما على ظنِّي باس.
- ودِّع الصَّبر محب ودَّعك.
- شحطنا وما بالدار نأيٌّ ولا شحطُ.
- أما في نسيم الرِّيحِ عرف معرَّف.
- بالله خذ من حياتي.
- غريبٌ بأقصى الشَّرق يشكر للصَّبا.
- راحت فصح بها السقيمُ.
- لو أنَّني لك في الأهواءِ مختارُ.
- وضُح الحقُّ المبينُ.
- الهوى في طلوع تلك النجوم.
نشأة ابن زيدون وطموحاته:
نشأ ابن زيدون وترعرع على يد جده وأمه في بيئة مليئة بالثراء والترف، وقد كان الابن الوحيد لأمه، لذلك فقد حظي بكثير من الدلال، إذ ربطته بأمِّه علاقة وتيدة، فكانت صاحبة تأثير قوي فيه وفي شخصيته، وكان لذلك سبب متين في بروز شخصية ابن زيدون النرجسية.
جعلت حياة الثراء الفاحش والترف منه إنساناً مغروراً بنفسه وبوسامته وحضوره، وهذا ما جعله ينصرف إلى اللهو والمتعة لا سيَّما أنَّ عصره كان عصر انفتاحٍ ومجون كبيرَين جداً.
عشق ابن زيدون الغناء والموسيقى والرقص، وكان لكل ذلك دور في تكوين شخصيته المتكبرة قليلاً والطموحة والمُحِبَّة للحياة.
شيوخ ابن زيدون وأساتذته:
منذ ولادته كان والده هو معلمه الأوَّل، فكان عارفاً بعلوم اللغة والأدب، فتولى تعليم ابنه منذ الصغر، كما خصص له مجموعة من الأساتذة لتدريسه مختلف العلوم، وبقي ابن زيدون صديق والده حتى وفاته، واستفاد من علمه ونهل من فقهه، حتى أصبح عالم قرطبة الأول.
من ناحية أخرى فقد تتلمذ على يدي أبي بكر مسلم بن أحمد، ونهل العلم من هنا وهناك، فزار دور الكتب، وارتاد إلى مجالس الجوامع.
منزلة ابن زيدون:
يعد ابن زيدون من أقدر شعراء عصره الذي عاش فيه، فقد لُقِّبَ “ببحتري المغرب”، ويرجع ذلك إلى ميزة شعره بأنَّه سهلٌ وعذبٌ، وفي ذلك مدحه المقري قائلاً: (مَن لبس البياض وتختم بالعقيق وقرأ لأبي عمرو وتفقه للشافعي وروى شعر ابن زيدون فقد استكمل الظرف).
أما عن علماء الغرب، فقد اتفقوا مع علماء الشرق فيما يخص منزلة ابن زيدون، وفي ذلك كتب آنخل جنثالث بالنثيا: (أهم شعراء قرطبة في ذلك العصر هو أبو الوليد أحمد بن زيدون المخزومي)، وبذلك كان لابن زيدون منزلة رفيعة بسبب تفوقه ونبوغه وعلمه الغزير، ومقدرته على التعبير عن مشاعره بأسلوب جذاب رقيق.
رسائل ابن زيدون:
1. رسائل هزلية:
هي رسائل كتبها ابن زيدون في الفترة التي قضاها مسجوناً، ثم حكتها ولَّادة على لسانها إلى ابن عبدوس، والذي كان بينه وبين ابن زيدون تنافس للفوز بقلب ولَّادة.
لقد ظهر فيها سخط وهجاء وتشفٍ، وظهرت من خلالها قوة نفس ابن زيدون، وقد استفاد عند كتابة رسالته من رسالة الجاحظ (التربيع والتدوير)، ومن ناحية أخرى فقد شرح رسالة ابن زيدون الأديب ابن نباتة، سنة 768 في كتابه (سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون).
2. رسائل جديَّة:
هي رسالة كتبها ابن زيدون لابن جهور بعدما سجنه، لاستعطافه وشرح وجهة نظره له، وذلك بعد سقوط الدولة الأموية في الأندلس، فطلب عفوه ورضاه وترجاه أن يطلق سراحه ويعيده حُرَّاً.
حسب رأي كثير من الأدباء القدماء والمعاصرين، تعد هذه الرسالة من أعظم الرسائل الأدبية عبر العصور، وقد قلدها واقتدى بها أدباء كُثر، على سبيل المثال محمد بن نصر القيسراني، الذي استفاد منها على مستوى الشكل وليس المضمون، كما قلَّدها واستفاد منها محي الدين بن ظاهر، وصلاح الدين الصفدي.
في الختام:
لقد قدمنا لكم معلومات وافية عن ابن زيدون، الشاعر ذو الإحساس المرهف والأسلوب الرقيق الذي جذب جميع الأدباء قديماً وحديثاً، فنتمنى أن يكون مقالنا قد حقق الفائدة المرجوة لكم.