التدريس والتعلم

نشأته وخصائصه وأغراضه وأبرز شعرائه


في الجاهلية مثلاً، يخبرنا الشعر الجاهلي بجزالة ألفاظه وقوة تراكيبه عن الحياة الصعبة التي عاشها العرب متنقلين في الصحارى، ومثقلين بالعداوات والأحقاد والتعصبات القبلية، وفي الشعر الحديث نرى دخول التكنولوجيا ومنتجاتها في الأبيات الشعرية.

في الشعر الإسلامي نلتمس الكلمات والمعاني القرآنية، التي شاع تداولها في قصائد العرب بعد نزول القرآن الكريم، وفي هذا المقال سوف نستمع لصوت الشعر الأندلسي، فنقرأ فيه ونستخلص خصائصه، لنرى انعكاس الحياة في مرآة شعر تلك الحقبة الزمنية.

الشعر الأندلسي:

ما إن فتح “طارق بن زياد” الأندلس، ووطد المسلمون حكمهم هناك، واستقر الحال بهم، حتى بدأ الشعراء بالتوافد إلى “إسبانيا”، وبدأت بذلك شمس الشعر الأندلسي بالبزوغ، وبذوره بالنمو والاستطالة نحو الضوء، وكأنَّ أرض الأندلس كانت بيئة خصبة لكلمات الشعراء، فأنتشت وتفرعت وأنتجت قصائد بالغة وبليغة.

لأنَّ الشعر يشرب من ماء المكان الذي يوجد فيه، كان نمط الشعر الذي نما في “الأندلس” مختلفاً فنياً عن أنماط الشعر التي اعتادها العرب، فكان للأندلسيين والقصائد الأندلسية والشعر الأندلسي نمط إبداعي خاص، ونفس شعري فريد.

في “الأندلس”، لم يعد تأليف الشعر حكراً على الشعراء الأفذاذ فقط، فقد امتدت موهبة النظم حتى طالت شرائح متنوعة من رجالات المجتمع، فنظم الشعر كل من الوزراء والأمراء والفقهاء والأطباء والفلاسفة، وبالتأكيد – وكما هو الحال في كل عصر – تفتقت الموهبة الشعرية في الشاعرات أيضاً، فلم ولن يكون الشعر يوماً حكراً على جنس محدد.

إنَّ ما ميَّز الشعر الأندلسي كان ولادته في أرض “الأندلس” بحد ذاتها، فهي منطقة شاعرية ورومانسية ومثيرة للعواطف ومؤجِّجة للأحاسيس، وعندما اندمجت النفس المرهفة مع الجمال الرباني وعلوم اللغة العربية البديعة وآدابها، وُلد الشعر الأندلسي بشكل فطري في نفوس الشعراء، وكاد أن يصبح جميع أهل “الأندلس” من الشعراء.

هذا لا يلغي بالتأكيد كون الشعر الأندلسي امتداداً للشعر العربي في الشرق، الذي أثار إعجاب وشغف جميع الشعراء في “الأندلس”، فباتوا يتتبعون أخبار شعرائه وجديد أقوالهم عن طريق الكتب التي تصل إليهم، أو الوافدين إليهم من علماء الشرق، أو المسافرين من شعراء وعلماء “الأندلس” إلى الشرق البديع، وعلى الرغم من أنَّ تأثر الأندلسيين بالشعر في الشرق كاد يقارب التقليد، إلا أنَّهم نجحوا في ابتكار لون خاص بهم يتفردون به عن بقية الشعراء.

فيما بعد تحول الشعر الأندلسي إلى واحد من سمات الحضارة العربية في “الأندلس”، ولنكن صادقين، فقد أصبح أهم وأشهر خصائصها ونتائج قيامها، وعلى الرغم من اندثار هذه الحضارة فيما بعد، إلا أنَّ آثارها خالدة حتى اليوم، ومن بين هذه الآثار نذكر التركات الشعرية الثمينة لعباقرة الشعر في “الأندلس” أمثال “ابن زيدون” و”المعتمد بن عباد” و”بشار بن برد” و”ابن خفاجة” و”ابن عربي” وغيرهم.

نشأة الشعر الأندلسي:

لم يكن الشعر الأندلسي في بداية ظهوره على هذه الهيئة التي يُعرف بها الآن؛ بل إنَّ نشأة الشعر الأندلسي قد مرت بمراحل عدة حتى وصلت إلى هذه الصورة المنمَّقة الجميلة، فالشعر الأندلسي قد بدأ كما قلنا مع الفتح الإسلامي للأندلس، وكان في بداياته يعكس الواقع السياسي غير المستقر، ومرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالحياة السياسية في مطلع نشوئه.

لم يتميز في ذلك الوقت بأي طابع خاص؛ إنَّما كان شعراء الأندلس يقلِّدون شعر الشرق، فهم يعيشون عليه ويَعُدُّونه قدوة مثلى، فحذوا حذوه في الألفاظ والتراكيب والجزالة اللفظية، وأهملوا تطوير الصور والأفكار.

إذا ما أردنا أن نحدد الحقبة الزمنية التي ازدهر فيها الشعر الأندلسي حقاً، فهي الحقبة التي تلت مجيء “عبد الرحمن الداخل” إلى “الأندلس”، وإرساء دعائم الدولة الأموية فيها، وفي هذه المرحلة تحديداً ظهر شعراء عظماء من بينهم “عباس بن ناصح” الذي كان متبحراً في الأدب واللغة، وعُرف بكونه شاعراً أكثر من كونه عالماً، وترك ديواناً شعرياً كان بالنسبة إلى شعراء “الأندلس” أشبه بالكنز الثمين.

الجدير بالذكر أنَّ تلك الحقبة الزمنية لم تكن فيها “الأندلس” في أوج رونقها وجمالها، فكانت الأشعار تأريخاً للأحداث الحربية أكثر من أي شيء آخر، وفيما بعد، وحين أتى عصر الخلافة، كان الشعر الأندلسي قد أتم اختماره ونضوجه، وزاد رونقاً ويفاعة بعد سقوط الدولة الأموية ومجيء عصر ملوك الطوائف، وفي ذلك الوقت كان قد أصبح للأندلسيين شعر ناضج ورائع ومتفرد يعبِّر عنهم، ويباهون به كل شعراء العالم في كل زمان ومكان.

شاهد بالفديو: حقائق ومعلومات قد لا تعرفونها عن اللغة العربية

 

خصائص الشعر الأندلسي:

بعد أن تحدَّثنا عن نشأة الشعر الأندلسي، ننتقل الآن للحديث عن خصائص الشعر الأندلسي، لنعدد الميزات التي جعلت الشعر في هذه الحقبة مميَّزاً عن كل ما سبقه وتلاه.

1. التفرد:

من خصائص الشعر الأندلسي نستطيع القول إنَّه استطاع التفرد عن غيره بموضوعاته، فقد تناول موضوعات جديدة لم يتناولها أحد سابقاً، فضلاً عن كونه قد جدد في طريقة تناول الموضوعات المطروقة.

2. البساطة والوضوح:

أكثر ما يميز خصائص الشعر الأندلسي هو بساطته ووضوحه، ولقد أثبتت هذه الخاصية مفعولها حين تناولت القصائد الموضوعات التاريخية والوقائع بطريقة التلميح، وخاصةً تلك المتعلقة برثاء الممالك المتهالكة.

كان للوضوح والبساطة أيضاً مفعول سحري في جعل الرقة تنساب مع الأبيات، فبدت الكلمات مألوفة بعيدة عن الغرابة والتعقيد، ومصقولة لغوياً على أكمل وجه، وملتزمة بالقوافي والأوزان الأصيلة، وفيما بعد ابتكر الأندلسيون أوزاناً جديدة تتناسب مع الشعر الغنائي الذي شرعوا بتداوله في المجالس.

3. استخدام البحور الشعرية الخفيفة والقصيرة:

من خصائص الشعر الأندلسي استخدامه البحور الشعرية الخفيفة والقصيرة، فهي كانت تتناسب مع طبيعة الحياة والرخاء الذي ساد في ذلك الوقت، والذي نتج عنه نشاط الغناء واللهو كما كان الحال في العصر العباسي.

4. الخلو من المبالغة:

يضاف إلى خصائص الشعر الأندلسي خلوه من المبالغة وجنوحه إلى التصاوير الإبداعية والخيالات، وغناه من حيث ذلك بالاستعارات البليغة، ويُستثنى من هذه الخاصية الشعرية الشاعر “ابن هانئ”، الذي كان تأثُّره بـ “المتنبي” في مجازاته واضحاً وجلياً.

أغراض الشعر الأندلسي:

تنوَّعت أغراض الشعر الأندلسي تنوعاً واسعاً، فشملت موضوعات جديدة إلى جانب الموضوعات التقليدية التي تناولها الشعراء الآخرون، ومن بين أغراض الشعر الأندلسي المستحدَثة نذكر الشعر التعليمي والشعر الغنائي ورثاء المدن، والشعر الغنائي بحد ذاته أنشأ تفرعات جديدة للشعر الأندلسي، أهمها الموشحات والزجل، وفيما يأتي نستعرض أبرز أغراض الشعر الأندلسي:

1. شعر المدح:

يُعَدُّ شعر المدح من أغراض الشعر الأندلسي التقليدية؛ أي المستوحاة من أغراض الشعر العربي في الشرق، واستخدم الشعراء الأندلسيون هذا اللون لامتداح الحكام على اختلاف المراحل السياسية التي مرت بها البلاد، ومن أبرز شعراء المدح نذكر “ابن حمديس الصقلي” و”ابن هانئ الأندلسي”.

2. شعر الغزل:

يُصنَّف شعر الغزل أيضاً من أغراض الشعر الأندلسي التقليدية، فهو من حيث الموضوع العام غرض شعري مستوحى من الشعراء القدماء، إلا أنَّ الطريقة التي قدَّمه الشعراء الأندلسيون بها كانت مستحدَثة؛ إذ كانت متأثرة بطبيعة “الأندلس” وجمالها ورقتها، ولعل أشهر قصائد الغزل الأندلسية هي “نونية ابن زيدون” التي كتبها لـ “ولَّادة بنت المستكفي”، والتي يبدأ مطلعها:

أضحى التَّنائي بديلاً من تَدانينا ونابَ عن طِيبِ لُقيانا تَجافِينا

3. شعر رثاء المدن:

يُعَدُّ هذا الغرض من أغراض الشعر الأندلسي مستحدثاً؛ إذ كان شعراء “الأندلس” أول من توسَّع في رثاء المدن المتهالكة بفعل الحروب، فبكوا مدنهم وضياعها، وتوسعوا في وصف أحزانهم على سقوطها، وكان “أبو البقاء الرندي” أكثر شعراء الأندلس الذين اشتُهروا بهذا اللون الشعري.

4. الشعر التعليمي:

لم يكن الشعر التعليمي من أغراض الشعر الأندلسي المستحدَثة تماماً؛ إذ كان هذا الغرض موجوداً في الشعر العباسي، إلا أنَّ الشعر الأندلسي قد توسع في استخدامه، ومن أشهر قصائد الشعر الأندلسي التعليمية نذكر “ألفية ابن مالك في النحو” و”أرجوزة يحيى بن حكم الغزال”، والجدير بالذكر أنَّ قصائد هذا الغرض تُنظَم على بحر الرجز، وصُممت أصلاً لتسهيل العلوم وعمليات حفظها وتذكُّرها.

5. الموشحات:

الشعر الأندلسي والموشحات هما من أكثر الكلمات المتتالية التي قد نسمعها، فلا يمكن أن نذكر الشعر الأندلسي دون أن نذكر الموشحات؛ والموشحات هي من الفنون الشعرية المستحدَثة في العصر الأندلسي، والتي لم تكن في أي زمان قبله.

تخضع الموشحات في قوافيها وبنيانها وأقسامها لقواعد محددة، وتستخدم اللغة الدارجة وبعض الألفاظ الأعجمية في خرجتها، وتتصل اتصالاً مباشراً بالغناء، فالموشحات هي من أشكال الشعر الغنائي، ومن أبرز الشعراء الذين برعوا في هذا اللون نذكر “ابن زهر الإشبيلي”.

6. شعر الزجل:

هو واحد من أغراض الشعر الأندلسي المستحدَثة تماماً، وهو موشح منظوم باللغة المحكية من قِبل الطبقة الشعبية، ويؤدى بصحبة الموسيقى دون إيلاء اهتمام بالغ بالوزن والقافية، ويمكننا القول إنَّ الزجل بين العوام يقابله الموشح بين المثقفين، ومن أبرز الزجالين في الأندلس ومبتكر هذا اللون هو “أبو بكر بن قزمان”.

شاهد بالفديو: أشهر الكتاب والأدباء العرب ومؤلفاتهم

 

أبرز شعراء العصر الأندلسي:

شهد العصر الأندلسي بروز العديد من الشعراء البارزين الذين تركوا بصمتهم الخالدة في الأدب العربي. هؤلاء الشعراء لم يقتصر دورهم على نقل مشاعرهم وأفكارهم فقط، بل أسهموا في إثراء التراث الثقافي للعالم الإسلامي. فقد عرف شعراء العصر الأندلسي بقدرتهم الفائقة على التعبير عن الجمال والطبيعة والحب. نذكر لكم أهم شعراء ذلك العصر:

1. ابن خفاجة:

المعروف بـ “صنوبري الأندلس” و”جنَّان الأندلس”.

2. المعتمد بن عبَّاد:

الشاعر الأسير الذي قال أشهر أشعاره وهو في السجن.

3. ابن عبدون:

الذي كان كاتباً وشاعراً شجاعاً فارساً.

4. ابن دراج القسطلي:

الذي كان شاعر “المنصور بن أبي عامر” في عهد الحجابة العامرية.

5. ابن زيدون:

الذي وقع في حب “ولَّادة بنت المستكفي” وكتب فيها عيون أشعار الغزل العذري الرقيق.

في الختام:

الشعر الأندلسي والموشحات والشعر الغنائي هي من أعظم الإنجازات الثقافية التي حققها فتح العرب والمسلمين للأندلس، فكان هذا الفتح ذا نتائج إيجابية دينية وسياسية وثقافية، ولا بد لنا في ختام هذا المقال من أن نمتنَّ للغتنا العربية هذا الوعاء الشاسع الذي احتضن كل هذه الفنون وساهم في إخراجها بهذه الصور البديعة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى