أقام “الخليل” عروضه على أساس لغوي يبدو بسيطاً جداً في النظرة الأولى، وهو التمييز بين الحركة والسكون، ولكنَّ هذه البساطة تبدو في النظرة الثانية والثالثة أشق وأكثر تعقيداً، فحاول “الخليل” أن يضبط الأشكال الشعرية بكلمات مشتقة من حروف (فعل) المستخدَمة في الميزان الصرفي سماها “التفاعيل”، وهذه التفاعيل هي: فعولن، فاعلن، مفاعيلن، مستفعلن، فاعلاتن، مفاعلتن، متفاعلن، فاع لاتن، مفعولات، مستفع لن.
لقد ضبط “الخليل” أوزان الشعر العربي في 16 بحراً، ومنها: الطويل، والمديد، والوافر، والهزج، والرَّمل، والمنسرِح، والسريع، والخفيف، والمضارِع، والمقتضَب، والمتقارِب، والمتدارَك، وغيرها، وسيكون حديثنا في هذا المقال عن البحر المضارِع وتفعيلاته وأهم القصائد التي نُظمت عليه.
ما هو البحر المضارع؟
البحر المضارع من بحور الشعر المشتركة بين العربية والفارسية، وهو من البحور المهملة وقليلة الانتشار، ويرى بعض الناس أنَّه لا يجوز نظمه سوى في التواشيح والأناشيد.
سُمِّي البحر المضارع بهذا الاسم لمماثلته للبحر الشعري الخفيف أو المقتضَب؛ وذلك لأنَّ أحد جزأيه مجموع الوتد، والآخر مفروق الوتد، وقيل سمي بالمضارع لمماثلته البحر المنسرِح في أنَّ وتده المفروق في جزئه الثاني.
قيل أيضاً سمي بالمضارع لمضارعته الهزج في تقديم أوتاده دون أسباب، فلم يُستخدَم هذا البحر إلا مجزوءاً، وهو من البحور المركبة التي لم يُنظم عليها شعر مشهور، مع جواز النظم عليه.
ما هو وزن البحر المضارع وتفعيلاته؟
وزن البحر المضارع في دائرته: مفاعيلن فاعِ لاتن مفاعيلن/ مفاعيلن فاعِ لاتن مفاعيلن، ويُعَدُّ التام من البحر المضارع غير مستخدَم؛ لذا يأتي مجزوءاً وجوباً، وعندها يكون وزنه: مفاعيلن فاعِ لاتن/ مفاعيلن فاعِ لاتن.
فاعِ لاتن: تبقى هذه التفعيلة كما هي، ولا يطرأ عليها أي تغيير.
مفاعيلن: قد تأتي مفاعيلُ وهي الأكثر استخداماً، وقد تأتي مفاعلُن وهي الأقل استخداماً.
يدخل البحر المضارع من الزحافات والعلل والكف والقبض والخرب والشتر، وذلك في عروضه وضربه، وأما الحشو فتقوم المراقبة بين ياء (مفاعيلن) ونونها، فإما أن تقبض، أو أن تكف، وإلى ذلك أشار الناظم بقوله: (ما بين كف الجزء والقبض معاً… تراقب من أجله ما اجتمعا) فلا يجتمع القبض مع الكف، ولا يسقطان معاً.
يجوز في الحشو أن يدخل الخرب بحذف الميم من (مفاعيلُ) المكفوفة، فتصير (مفعول)، أو دخول الشتر بحذف الميم من (مفاعلن) المقبوضة، فتصير (فاعلن)، ويمتنع الخبن في (فاعلاتن) عروضاً كانت أو ضرباً؛ والسبب أنَّ ثانيها الساكن يقع في الوتد، وحذف الثاني الساكن لا يقع إلا في الأسباب، وكذلك يكتبها العروضيون بوضع الثاني الساكن في الوتد المفروق بهذا الشكل (فاعِ لاتن)، وللسبب نفسه يمتنع في هذه التفعيلة زحاف الشكل؛ وذلك لأنَّ الشكل يقوم على الخبن والكف.
أجاز العروضيون الكف في العروض بـ (فاعلاتُ)، ولم يجيزوه في الضرب، لئلا يوقف على حركة قصيرة.
آراء العلماء في البحر المضارع:
ذهب “الأخفش” إلى أنَّ الاستغناء عن هذا البحر أفضل؛ والسبب عنده يرجع إلى أنَّ العرب لم تنشد عليه إلا البيت أو البيتين، وذكر في مرة أخرى أنَّه ليس من أوزان العرب، واستدل على ذلك بعدم ورود قصائد كاملة لشاعر فصيح معروف؛ وإنَّما كل شواهده من البيت أو البيتين، فصلاً عن أنَّها ترد غير منسوبة لقائل، وذهب “الزجاج” إلى أنَّه وزن عربي، ولكنَّه قليل.
أمثلة عن البحر المضارع مع التقطيع:
وقفنا على الرِّجالِ
فلم نلقَ مثلَ زيدٍ
وقفنا عَ / لررجالي …. فلم نلقَ / مثل زيدن //ه/ه/ /ه//ه/ه …. //ه/ه/ /ه//ه/ه مفاعيلُ فاعلاتن …. مفاعيلُ فاعلاتن
أيا ليلُ لا انقضيتَ
ويا صبحُ لا أتيْتَ
أيا ليلُ / لا انقضيت … ويا صبحُ / لا أتيتا //ه/ه/ /ه//ه/ … //ه/ه/ /ه//ه/ه مفاعيلُ فاعلاتُ … مفاعيلُ فاعلاتن وفي هذا المثال نلاحظ أنَّ زحاف الكف قد أصاب العروض البيت والشطر الأول من البيت، وأما الضرب فهو صحيح.
ألا كلُّ ما تؤدِّي
لأهليك لا يضيع
ألا كلْ لُ / ما تؤدْ دِي … لأهليكَ / لا يضيعو //ه/ه/ /ه//ه/ه …. //ه/ه/ /ه//ه/ه مفاعيلُ فاعلاتن …. مفاعيلُ فاعلاتن
شاهد بالفديو: أشهر الكتاب والأدباء العرب ومؤلفاتهم
أهم القصائد في البحر المضارع:
1. ما ورد في كتب العروضيين:
وردت في كتب العروضيين المقطوعات والأبيات الآتية على هذا البحر:
دعاني إلى سعاد
دواعي هوى سعادِ
أرى للصبا وداعاً
وما يذكر اجتماعا
كأنْ لم يكن جديراً
بحفظ الذي ضاعا
ولم يصبنا سروراً
ولم يُلهِنا سماعا
فجدِّد وصال صبٍ
متى تعصه أطاعا
وإن تدنُ منه شبراً
يقرِّبك منه باعا
2. قصيدة ويا ليل إن أردتَ:
ويا ليل إن أردتَ
طريقاً فلا اهتديت
فوالله ما صرمتُـ
كَ فاحْتَلْ بما اشتهيتَ
إقرأ أيضاً: البحر الطويل وأهم القصائد عنه
3.قصيدة وإن جزتَ دار ليلى:
وإن جزتَ دار ليلى
فلا تنسَ ذكر عهدي
سلام على ديارٍ
بها نلت كلَّ قصدي
4. قصيدة وقفنا على الرجالِ:
وقفنا على الرجالِ
فلم نلق مثل زيدِ
وقد روي:
وقد رأيت الرجال
فما أرى مثل زيدِ
5. قصيدة ألا كلُّ ما تؤدِّي:
ألا كلُّ ما تؤدِّي
لأهليك لا يضيعُ
6. قصيدة أيا ليلُ لا انقضيتَ:
أيا ليلُ لا انقضيتَ
ويا صبحُ لا أتيتَ
7. قصيدة على أيها السلامُ:
على أيها السلامُ
فما لي بها مقامُ
8. قصيدة فقلنا لهم وقالوا:
فقلنا لهم وقالوا
وكل له مقالُ
9. قصيدة فنفسي لها حنينُ:
فنفسي لها حنينُ
وقلبي له انكسارُ
وصدري به غليلُ
ودمعي له انحدارُ
10.قصيدة وكم قلت سوف يأتي:
وكم قلت سوف يأتي
إلى داره الغريبُ
ويملأ الدار أنسا
فتزدهي ونطيب
وها هو العمرُ يمضي
وما أتانا الحبيبُ
11. قال سعيد بن وهب:
لقد قلت حين قرِّ
بت العيس يا نوارُ
قفوا فاربعوا قليلاً
فلم يربعوا وساروا
فنفسي لها حنينٌ
وقلبي له انكسارُ
12. قصيدة وقد رأيت الرجال:
وقد رأيت الرجالا
فما أرى مثل عمرو
13. قصيدة لسوف أهدي لسلمى:
لسوف أهدي لسلمى
ثناء على ثناء
14.قصيدة متى تسمح الليالي:
متى تسمح الليالي
بأن يشرق الصباحُ؟
لكي تسعد البلادُ
ويعنو لها النجاحُ
15. قصيدة ألا من يبيع نوماً:
ألا من يبيع نوماً
لمَنْ قطُّ لا ينامُ
لمن ذاب في هواه
ومن شفه الهيامُ
لئن كان ليس يشكو
لقد هدَّه السقامُ
16. قصيدة أيا رب كيف أحيا:
أيا رب: كيف أحيا
إذا تخليتَ عني؟
17. قصيدة أخ كان لا يبالي:
أخ كان لا يبالي
أذى الدهر والرفاقِ
18.قصيدة أيا حسنها مصيفاً:
أيا حسنها مصيفاً
ويا طيبها شتاء
19. قال أبو حيان الأندلسي في قصيدة رماني الرشا بسهم:
رماني الرشا بسهمٍ
مصيبٍ به فؤادي
بطرف ندٍ وفيهِ
سناتٌ نفت رقادي
فجفني إلى سهادٍ
وجنبي على قتادِ
ودمعي جرى كسيلٍ
أتيٍّ يجي بوادي
وقلبٌ حُشي بجمرٍ
كقدحٍ من الزناد
فصبري لدى انتقاصٍ
وحبِّي إلى ازديادِ
فأنَّى يرى سلواً
لصبٍّ ضناهُ بادِ
شفاء الضنى شفاءُ
تحلى جنى الشَّهادِ
متى يرتشف جناها
ينل غاية المرادِ
ويحيا بخير عيشٍ
ويأمن من الأعادي
في الختام:
كما رأينا، ذهب كثير من العلماء إلى أنَّ البحر المضارع قد نَدَرَ استخدامه في الشعر العربي، فليس للعرب قصائد مطوَّلة عليه إلا ما ندر، وأغلب الشعر الوارد على هذا البحر ما بين أبيات منفردة، أو مقطوعات قصيرة، وأكثر تلك الأبيات والمقطوعات غير منسوبة لقائل، أو قصائد من شعر المولِّدين مثل “أبي نواس”، ومن المُحدَثين مثل “البارودي”.
مع ذلك، فإنَّ البحر المضارع هو بحر حقيقي، وقد أهمله كثير من الشعراء القدامى والمُحدَثين؛ لأنَّ إقرار “الخليل” به من ناحية، ووجود بعض الأشعار القديمة والحديثة عليه من ناحية أخرى يؤكد وجوده.
قد تكون قلة نظم الشعراء على هذا البحر لأنَّه لم يرد إلا مجزوءاً، والبحر في صورته المجزوءة يقل عدد حروفه، وهذه القلة الشديدة في عدد الأحرف لا تعطي الفرصة للشاعر لترجمة انفعالاته في رسم الصورة الفنية التي يقدِّمها للقارئ أو المتلقي.
