إسهامات الكيميائيين: رُوَّاد التغيير في عالمنا

سنغوص في هذا المقال في أعماق إسهامات الكيميائيين البارزين الذين ساهموا في تشكيل حاضرنا ومستقبلنا، وسنستعرض إنجازاتهم الرائعة، بدءاً من اكتشاف عقاقير جديدة إلى تطوير تقنيات صديقة للبيئة، وكيف أثرت أعمالهم في حياتنا اليومية.
إسهامات الكيميائيين في التعرف على خصائص الأحماض والأُسس
تُعتبر إسهامات الكيميائيين في فهم المواد الكيميائية أمراً أساسياً يؤثر في حياتنا اليومية، سواء في المختبرات أو أثناء الطهي. كانت خصائص الأحماض والأُسس، في العصور القديمة، غير مفهومة تماماً؛ حيث استخدم الإغريق مجموعة متنوعة من الاختبارات لتصنيف المواد، معتمدين على الطعم لتحديد ما إذا كانت حامضة، أم مرّة، أم مالحة، أم حلوة.
كما أطلقوا على المواد الحامضة، مثل الخل وعصير الليمون، اسم “أحماض”؛ إذ إنَّ الكلمتين “حمض” و”أسيتيك” مستمدَّتان من الكلمة اللاتينية التي تعني “حامض الطعم”.
بدأ الكيميائيون، مع تقدم العلم في العصر الذهبي الإسلامي وعصر النهضة، في فهم الأحماض فهماً أفضل، واكتشفوا أن الأحماض القوية يمكن أن تسرع تآكل المعادن وتذوب بعض الصخور. كان للخيميائيين في العصور الوسطى مجموعة من الأحماض والقلويات، مثل كربونات الصوديوم وكربونات البوتاسيوم، وحامض الهيدروكلوريك وحامض الكبريتيك.
في عام 1300، بدأ العالم الإسباني، أرنالدس دي فيلا نوفا، باستخدام عبّاد الشمس كأداة لدراسة الأحماض والأُسس، وتوسعت هذه الفكرة لاحقاً على يد روبرت بويل، الذي اكتشف أن بعض المواد النباتية تغير لونها في وجود الأحماض أو الأُسس، مثل شراب البنفسج الذي يتحول من الأزرق إلى الأخضر في البيئة القاعدية وإلى الأحمر عند مزجه بالحمض.
في عام 1909، اخترع الكيميائي الحيوي الدنماركي سورين سورنسن مقياس الأس الهيدروجيني، الذي يستخدم لقياس درجة الحموضة؛ حيث لاحظ أن حموضة المحلول تؤثر في نشاط الإنزيمات.
تتراوح قيمة الأس الهيدروجيني بين 0 و14؛ حيث يعتبر الوسط حامضياً إذا كان أقل من 7، وقاعدياً إذا كان أكبر من 7، ومتوازناً عند 7. وضع عديدٌ من العلماء تعريفات للأحماض والأُسس مع تطوُّر الأبحاث.
كان “سفانتي أرهينيوس” أحد المساهمين الرئيسين؛ حيث عرّف الأحماض بأنّها مواد تزيد من تركيز أيونات الهيدرونيوم (+H) في المحلول، بينما اعتبر الأُسس مواد تزيد من تركيز أيونات الهيدروكسيد (-OH). مع ذلك، كانت هذه النظرية محدودة في تفسير بعض السلوكات مثل تصرف الأمونيا كقاعدة رغم عدم وجود مجموعة (-OH).
لاحقاً، في عام 1923، وسّعت نظريتا برونستد-لوري مفهوم أرهينيوس؛ حيث اعتبرت الحمض مانحاً للبروتون والقاعدة مستقبلاً له. لم تكن هذه النظرية كافية لتفسير جميع التفاعلات الحمضية القاعدية.
أخيراً، جاءت نظرية لويس، التي تعد الأكثر شمولاً؛ حيث تنص على أن الحمض هو مستقبل لزوج الإلكترونات غير الرابطة، بينما القاعدة هي مانحة لذلك الزوج. هذه التطورات جميعها تمثل إسهامات الكيميائيين التي ساهمت في تعزيز فهمنا للعالم من حولنا.
إسهامات الكيميائيين في الصحة
تؤدي إسهامات الكيميائيين دوراً حيوياً في تطوير مجالات الطب والرعاية الصحية؛ حيث تساهم الكيمياء مساهمةً كبيرةً في إنتاج العقاقير الجديدة، مثل الإنسولين، وتستخدم التحليل الكيميائي لتحليل الأدوية وإدخال مركبات جديدة عليها لتطويرها.
يتطلب إنتاج دواء جديد وقتاً طويلاً وإجراءات معقدة؛ إذ يجب دراسة كيمياء المرض وتأثير الدواء في جسم الإنسان. تمر هذه العملية بعدة مراحل، بما في ذلك التجارب على الحيوانات؛ حيث قد يظهر الدواء فعّالاً على الحيوانات ولكنه لا يعمل على البشر. في الواقع، من بين مئة دواء يُطوَّر لعلاج مرض معين، قد يكون القليل فقط آمناً وفعّالاً.
إلى جانب ذلك، تساهم الكيمياء في تصنيع المواد المستخدمة في العمليات الجراحية، مثل الغرز والجلد الاصطناعي والمواد المعقمة. على سبيل المثال، الخيوط الجراحية التي تستخدم في تخييط الجروح تذوب في الجسم بمرور الوقت دون أن تسبب أي ضرر.
كما أنّ الأوعية الدموية البديلة المستخدمة في جراحة القلب مصنوعة من مواد كيميائية لا تتفاعل مع أنسجة الجسم، مما يمنع رفضها. ويستخدم الجلد الصناعي كبديل للجلد الطبيعي في علاج الحروق.
عبر العصور، أدى تطور علم الكيمياء إلى اكتشاف عديدٍ من الأدوية والمركبات التي ساهمت في إنقاذ حياة البشر.
من بين هذه الإسهامات الهامّة، يمكن الإشارة إلى:
1. فيتامين سي
اكتشفه الكيميائي ألبرت زينت جيورجي في ثلاثينيات القرن الماضي، وهو ضروري لتمكين الجسم من استخدام الكربوهيدرات والدهون والبروتينات بكفاءة.
2. السموم الصناعية
ساهمت أليس هاميلتون في دراسة السموم الصناعية، مما جعل بيئات العمل أكثر أماناً؛ حيث بحثت في المخاطر الكيميائية في مناطق حضرية ومناجم ومصانع.
3. التمثيل الغذائي للكربوهيدرات
أجرى كارل وجيرتي كوري دراسات رائدة في العشرينيات من القرن الماضي، مما أدى إلى فهم أفضل لعملية استقلاب الجلوكوز في الجسم؛ إذ ساهم في تطوير علاجات مرض السكري.
4. موانع الحمل
بدأت المكسيك في ثلاثينيات القرن الماضي بإنتاج هرمونات الجنس؛ حيث نجح راسل ماركر في تخليق هرمون الحمل المعروف بالبروجسترون، مما أدى إلى تطوير أول مانع حمل فموي عام 1951.
5. البنسلين
اكتشفه ألكسندر فليمنج في عام 1928، ويعتبر أول مضاد حيوي فعال، مما أدى إلى بدء عصر المضادات الحيوية.
6. العلاج الكيميائي
ساعدت أدوية العلاج الكيميائي المستخلصة من المنتجات الطبيعية، مثل كامبتوثيسين وتاكسول، في إنقاذ آلاف المرضى من السرطان؛ حيث تعمل هذه المركبات على قتل الخلايا السرطانية بطرائق مبتكرة.
إسهامات الكيميائيين في الطاقة
تُعد إسهامات الكيميائيين في مجال الطاقة محورية في تطوير مصادر الطاقة المستدامة وتحسين كفاءة استخدامها. كما ساهموا في البحث عن بدائل للطاقة التقليدية، مثل الوقود الأحفوري، من خلال تطوير تكنولوجيا الطاقة المتجددة. على سبيل المثال، كانت جهود الكيميائيين وراء ابتكار الخلايا الشمسية، التي تحول ضوء الشمس إلى كهرباء، مما يوفر مصدراً نظيفاً ومستداماً للطاقة.
لقد كان لهم أيضاً دور بارز في تحسين كفاءة البطاريات، مثل بطاريات الليثيوم أيون، التي تُستخدم على نطاق واسع في الهواتف الذكية والسيارات الكهربائية. تتيح هذه هذه البطاريات تخزين الطاقة بطريقة فعّالة، مما يعزز من إمكانية الاعتماد على الطاقة المتجددة.
علاوةً على ذلك، ساهم الكيميائيون في تطوير الوقود الحيوي، الذي يُستخرج من مصادر نباتية ونفايات عضوية، مما يساعد على تقليل انبعاثات الكربون ويعزز من استدامة الطاقة. تمكّنوا، من خلال أبحاثهم، من تحسين العمليات الكيميائية اللازمة لإنتاج الوقود الحيوي بكفاءة أعلى.
بالإضافة إلى ذلك، شارك الكيميائيون في ابتكار تقنيات احتجاز الكربون، التي تهدف إلى تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري من مصادر الطاقة التقليدية. هذه التكنولوجيا تساهم في معالجة التغير المناخي وتحديات البيئة.
الكيمياء والبيئة
تُعتبر إسهامات الكيميائيين في تطوير الكيمياء الصديقة للبيئة خطوة حيوية نحو تحقيق توازن بين احتياجات البشرية والحفاظ على كوكبنا. يسعى هذا المجال الجديد إلى استكشاف بدائل للمواد الضارة بالبيئة والصحة، مع التركيز على تصنيع منتجات وعمليات تقلل من استخدام وإنتاج المواد الخطرة.
تتزايد أهمية تقليل استهلاك الطاقة في المنازل والمدارس والمصانع؛ حيث تعمل الكيمياء الصديقة للبيئة على تصميم مواد كيميائية تتطلب طاقة أقل عند استخدامها، مما يسهم في تنفيذ عمليات صناعية أكثر كفاءة في درجات الحرارة والضغط المحيط.
تتجنب المبادئ الأساسية لهذه الكيمياء الكوارث البيئية، مثل تلوث المياه الذي يحدث عند التخلص من المواد الكيميائية في الأنهار والبحار، من خلال تطوير عمليات تمنع النفايات الصناعية. يتم التركيز على استخدام جميع المواد الداخلة في التصنيع إلى أقصى حد، مما يقلل من الفائض ويحسن من تأثير المنتجات في صحة الإنسان والبيئة.
تُظهر الأرقام القاسية واقع النفايات البلاستيكية؛ حيث يُعتقد أن هناك جزيرة من النفايات بحجم منغوليا في المحيط الهادئ، والتي تضر بالحياة المائية. لذا، يعمل الكيميائيون على إنتاج مواد قابلة للتحلل ببطء في الطبيعة، مما يقلل من تأثيرها السلبي في البيئة.
شاهد بالفيديو: النفايات البلاستيكية كمشكلة مناخية
يظهر مثال آخر على إسهامات الكيميائيين في تطوير مادة فوم البوليسترين، التي تُستخدم على نطاق واسع في التعبئة. تنتج الولايات المتحدة أكثر من 300 مليون كيلوجرام من هذه المادة سنوياً، وغالباً ما تتضمن عمليات إنتاجها مواد خطرة تستنزف طبقة الأوزون. لكن شركة داو للمواد الكيميائية، في عام 1996، قدمت حلاً مبتكراً باستخدام ثاني أكسيد الكربون كعامل نفخ، مما أتاح إعادة تدوير أسهل وأقل تأثيراً في البيئة.
أدركت لجنة جائزة نوبل أهمية هذه الكيمياء عندما منحت جائزة نوبل في الكيمياء عام 2005 لإيف تشوفيان وروبرت جرابز وريتشارد شروك، تقديراً لتطويرهم أساليب الإحلال والإبدال في التركيب العضوي، مما يُعَد خطوة كبيرة نحو الحد من النفايات الخطيرة.
يواصل العلماء، اليوم، البحث عن أساليب أكثر استدامة، مثل إنتاج بلاستيك من مصادر طبيعية قابلة للتحلل، وتصميم مركبات خفيفة الوزن تقلل من استهلاك الوقود في النقل. تمثل هذه الأبحاث تقدماً حيوياً في سبيل مستقبل متوازن؛ حيث يتوجب علينا في القرن الحادي والعشرين مواجهة التحديات البيئية والعمل على إنقاذ كوكبنا.
الكيمياء والتكنولوجيا
تُعتبر الكيمياء الدراسة العلمية للمادة، بما في ذلك تركيبها وخصائصها وتفاعلاتها، بينما تشير التكنولوجيا إلى التطبيق العملي لهذه المعرفة العلمية لأغراض محددة.
فبدون فهم دقيق للتفاعلات الكيميائية وخصائص المواد المختلفة، لن تكون كثير من التطورات التكنولوجية التي نستخدمها اليوم ممكنة. على سبيل المثال، يعتمد تطوير أدوية جديدة، ومواد متقدمة للإلكترونيات، وأجهزة تخزين الطاقة، جميعها على المبادئ الكيميائية.
وبالتالي، يمكن القول إن الكيمياء والتكنولوجيا مترابطتان ارتباطاً وثيقاً؛ حيث تُوفر الكيمياء المعرفة والفهم العلمي الذي يُحفز تطوير تقنيات جديدة تسهم في تحسين حياتنا.
الكيميائيون العرب والمسلمون
كان للعرب إسهامات بارزة في مجال الكيمياء؛ حيث ظهر عديدٌ من العلماء المتميزين، من أبرزهم جابر بن حيان، المعروف بلقب أبو عبد الله أو أبو موسى. رغم الاختلاف حول مسقط رأسه، يُعتقد أنه وُلد في “طوس” من بلاد خراسان، ويعتبره المؤرخون عربياً.
يُعد جابر من أوائل العلماء في الكيمياء؛ حيث برع في هذا العلم وكتب عديداً من المؤلفات. ومع ذلك، فقد واجه تحديات وصدامات مع معاصريه، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى تكفيره.
أما خالد بن يزيد بن معاوية، حفيد الخليفة الأموي الأول، فقد نشأ في بيت الخلافة واهتم بالعلم بعد أن تنازع على الخلافة. أصبح من أشهر علماء الكيمياء العرب؛ حيث أسهم في ترجمة الأعمال اليونانية إلى العربية، مما ساعد في تطوير هذا العلم.
كان خالد أيضاً كاتباً وشاعراً، وقد ذكره الجاحظ في كتابه “البيان والتبيين” كأحد أعلام عصره؛ حيث أبدع في ترجمة مختلف العلوم، بما في ذلك الكيمياء.
يأتي، في سياق العلماء العرب، يعقوب بن إسحاق الكندي، الذي وُلد في الكوفة أو البصرة. عرف بشغفه الكبير بالعلوم؛ حيث تلقى تعليمه على يد عديدٍ من الشيوخ.
كان الكندي فاضلاً في عصره ومعروفاً ببحثه العميق في مختلف الفروع العلمية، بما في ذلك علم الكلام والفلسفة؛ وله عديدٌ من المؤلفات التي تغطي مواضيع متنوعة، مما يعكس إسهاماته الكبيرة في تطور العلوم في العالم العربي.
في الختام
لم يقتصر دور هؤلاء العلماء على اكتشافات علمية فحسب؛ بل تركوا بصمة واضحة في مجالات متعددة تؤثر في حياتنا اليومية. من تطوير الأدوية والعقاقير التي تعالج الأمراض إلى ابتكار مواد جديدة تساهم في الحفاظ على البيئة، يظهر تأثيرهم العميق في كل جانب من جوانب حياتنا.
لذا، دعونا نستمر في تقدير إسهامات هؤلاء الرواد، ونعمل على تعزيز الابتكار العلمي الذي يضمن مستقبلاً أفضل لنا وللكوكب. إن مسيرة الكيمياء لا تزال مستمرة، ومع كل اكتشاف جديد، نقترب أكثر من تحقيق عالم مستدام وأكثر صحة.