Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
التدريس والتعلم

من هو الفرزدق؟ نسبه وحياته وشعره


الشعراء هم أولئك الذين وهبهم الله موهبةً فذَّةً، موهبةٌ تُمكِّنهم من تحويل مشاعرهم وأفكارهم إلى كلمات موسيقية مؤثِّرة، وهم سحرة الكلمات الذين يطربوننا بقصائدهم، ويبكوننا بأشعارهم، ويضحكوننا بأبياتهم.

سوف نغوص في هذا المقال في بحر شاعر عظيم، وسنتعرَّف إلى جوانب شعره المختلفة، وعناصره المميزة، ودوره في التعبير عن الذات والمجتمع، وسنُسلِّط الضوء على أحد أشهر الشعراء عبر التاريخ، وهو “الفرزدق” الذي عاش في العصر الأموي، وسنحاول إثراء ثقافتنا العربية، وتعزيز حبنا للشعر والشعراء، وتحفيز الأجيال الجديدة على الإبداع في هذا الفن الراقي من خلال الإضاءة على جوانب “الفرزدق” الشعرية والفنية.

نبذة عن الفرزدق:

“الفرزدق” هو “همَّام بن غالب بن صعصعة”، الذي وُلد في مدينة “البصرة” في السنة العشرين من التقويم الهجري، ووالدته هي “ليلى بنت حابس” أخت “الأقرع بن حابس” الصحابي الجليل الذي كان من أشراف العرب، ويقال عندما كان “الفرزدق” شاباً كان يُكنَّى بـ “أبي مكيَّة”، وهو اسم ابنة له، أما لقب “الفرزدق” فقد أُطلق عليه لخشونة ملامح وجهه وتدويره الذي يشبه قطعة العجين.

نسب “الفرزدق” عظيم رفيع، فهو من قبيلة “دارم” البدوية التي كانت لها مكانة مرموقة وشأن عظيم قبل الإسلام، والتي كانت متسيِّدة بسطوتها على القبائل، أما أبوه “غالب بن صعصعة” فقد اشتُهِر بالعزة والمنعة والكرم، وكان جدُّه “صعصعة” سيداً في قومه، وعُرف بسلوكه لطريق الكرم، وكان هذا سبباً في شهرته، فيُقال إنَّه اشترى أكثر من 400 فتاة كنَّ معرضات للوأد وأنقذهن من الموت المحتوم، وقد تأثر “الفرزدق” بجده، وورث عنه حب النجدة والكرم والإغاثة، وذكرها كثيراً في شعره وعظم مكانتها.

نشأ “الفرزدق” في البادية، فاكتسب خِصال أهلها وطباعهم وفصاحتهم، فكان طبعه حاداً وحجته قوية في الجدال، ويملك لغة صحراوية نقية ساعدته كثيراً على صياغة أعظم القصائد، ومكَّنته من اعتلاء مكانة مرموقة بين شعراء العربية.

حياة الفرزدق:

كان “الفرزدق” شديد الاعتداد والتأثر بقومه وبمآثرهم، وهذا ما ملأ نفسه زهواً وفخوراً بانتمائه لهم، وهذا ما جعل الافتخار بنسبه وقومه مادة دسمة لقصائده، فكان فخره بآبائه وأجداده حاضراً في كل وقت، وعلى الرغم من أنَّ الإسلام قد عدَّ هذا الأمر غير محبب، إلا أنَّها عادة متوارثة من الجاهلية لم يستطع التخلي عنها بسهولة.

كان “الفرزدق” فصيح اللسان، ومتمكناً من دقائق اللغة، وحافظاً لكثير من المترادفات والمفردات، وملماً بأخبار العرب وتاريخهم وتاريخ “تميم” دون شك، وقد أحب “الفرزدق” الشعر منذ نعومة أظفاره، وكان والده أول المعجبين به، فأقرأه القرآن الكريم احتكاماً لمشورة أمير المؤمنين “علي بن أبي طالب” رضي الله عنه في أمره وشعره؛ إذ كان ذووه من شيعة الإمام “علي بن أبي طالب” رضي الله عنه.

كان “الفرزدق” ابناً باراً بأبيه، ومخلصاً في محبته، ومجلاً له في حياته وبعد موته، وعلى الرغم من أنَّه كان قادراً على العيش معتمداً على أموال أبيه وتركاته، إلا أنَّ الشعر الذي سار في طريقه منذ الطفولة قد عزز في نفسه ما زرعته البادية من حب للمباهاة والانتصار والغلبة.

كما أنَّ اتكاله على غيره كان سيُعاب عليه بين خصومه من الشعراء، فيضيفونه إلى صفاته المذمومة التي ينعتونه بها في قصائد هجائهم، والتي كان “الفرزدق” يرد عليها بقصائد مماثلة من الهجاء والسباب؛ إذ كان سليط اللسان، وشريراً، ويبادئ الهجاء حتى من لم يبادئه به، وهذا ما أدخله سجون الولاة مراراً، وأذاقه مرارة النفي والتشريد، وعلى الرغم من ذلك، لم يعدل عن مساره ولم يتأدب لسانه، فأصبح الناس والأشراف والعلماء يتجنبونه ويخشون لسانه، فيسكتونه بالمال.

بحسب الرواة فإنَّ سلاطة لسان “الفرزدق” لم تكن أبداً دليلاً على شجاعته، فيذكرون أنَّه كان جباناً يقاتل في الحياة بلسانه فقط الذي كان أحد من نصل السيوف والخناجر، أما السيوف فلم يكن أهلاً لها بما يكفي، وكان جل افتخاره بنفسه مصبوباً على أصله وفصله، فكان هذا مأخذاً عليه ونقطة ضعف استغلها الشعراء الذين يهجونه، ومن ذلك نذكر قول “جرير” في هجاء “الفرزدق”:

زعمَ الفرزدق أن سيقتلُ مربعاً أبشِر بطول سلامةٍ يا مربع!

نذكر أيضاً في حياة “الفرزدق” أنَّه كان كما والده، منتمياً لشيعة الإمام “علي بن أبي طالب” رضي الله عنه وأبنائه، ويخصهم بالمدائح في قصائده مفتخراً بهذا الانتماء، ولقد كانت قصائده في مدحهم مليئة بالعاطفة الموالية كل الولاء، والذاخرة بالحماسة، فلم يكن فيها أي أثر للتكلف.

لم يمنع تشيُّع “الفرزدق” تقرُّبه من الأمويين، وكتابة قصائد مطولة في مديحهم هم أيضاً، وعلى الرغم من استتار نيته من المدح بين الرغبة في رضاهم أو الخوف من بطشهم، إلا أنَّ ما كتبه بحق بني أمية كان عظيم الشأن، ومن أبرز المحطات في حياة “الفرزدق” نذكر حربه الشعرية المطولة مع “جرير”، والتي نصت على تبادل الهجاء بينهما أبداً طويلاً، ونقض كل منهما لكل قصيدة يكتبها الآخر.

لم تتوقف الحرب الشعرية عند هذا الحد فقط؛ بل تحولت إلى سباق في امتداح الولاة والخلفاء والأمراء لنيل المكتسبات من قربهم، فتسابقا على مدح الخليفة “عبد الملك بن مروان” وإخوته، كما مدحا “الحجاج بن يوسف الثقفي”، إلا أنَّ “جريراً” كان أوفر حظاً من “الفرزدق”، والذي كان – لسيرته السيئة وطبعه المتجهم – مضطهداً من قِبل الولاة وسجين قضبانهم.

بسبب الحرب الشعرية الدائرة بين “الفرزدق” و”جرير” باستمرار، انقسم الناس إلى قسمين؛ قسم يناصر “الفرزدق” ويدعمه، وقسم آخر يناصر “جرير” ويتعصب لصالحه، وبحسب “ابن سلام” فإنَّ “الفرزدق” كان من فحول شعراء العرب وأعظمهم، فقد احتل “الفرزدق” مع آخرين الطبقة الأولى من طبقات الشعراء الإسلاميين التي وضعها “ابن سلام” في كتابه “طبقات فحول الشعراء”.

شملت قصائد “الفرزدق” كل ألوان الشعر من مدح وهجاء وفخر وغزل ورثاء، إلا أنَّ معظم أشعاره كانت في الهجاء والمدح والفخر، على حساب بقية الموضوعات، ولا يمكن إنكار فضل “جرير” على الغزارة الشعرية عند “الفرزدق”؛ إذ كانت المنافسة بينهما في الهجاء ومدح الولاة قادحاً يشعل فتيل قريحة كل منهما.

شاهد بالفديو: حقائق ومعلومات قد لا تعرفونها عن اللغة العربية

 

شعر الفرزدق:

كتب “الفرزدق” الشعر في جميع الموضوعات، وقلنا إنَّ الهجاء والمدح والفخر كان لهم حصة الأسد بين قصائده على حساب الموضوعات الأخرى، وفيما يأتي بعض من شعر “الفرزدق”:

1. قصيدة في الذم: “أرى الزعل ابن عروة حين يجري”

أَرى الزِّعُلَ اِبنَ عُروَةَ حينَ يَجري

إِذا جارى إِلى أَمَدِ الرِّهانِ

وَسَوفَ يَرى ابنُ عُروَةَ حينَ نَجري

إِلى الغاياتِ يَومَ يَرى مَكاني

فَمَن يَكُ مِن ذُرى عِزٍّ وَمَجدٍ

فَمِن آبائِكَ الغُرَرِ الرِّزانِ

وَرِثتَ فَلَم تُضَيِّع مَأثُراتٍ

وَقَصَّرَ عَن بِنائِكَ كُلُّ بانِ

وَتَنهَضُ حينَ تَنهَضُ لِلمَعالي

وَتَنطِقُ حينَ تَنطِقُ بِالبَيانِ

وَتُعطي العُرفَ عَفواً سائِليهِ

وَتُروي الزاعِبِيَّةَ في الطِّعانِ

وَتَضرِبُ حينَ تَضرِبُ لِلمَعالي

مَكانَ الجَوزِ مِن عَقدِ العِنانِ

2. قصيدة في المدح: “ما ابن سليم سائراً بجياده”

ما ابنُ سُلَيمٍ سائِراً بِجِيادِهِ

إِلى غارَةٍ إِلَّا أَفادَكَ مَغنَما

إِذا ما تَرَدَّى عابِساً فادَ سَيفُهُ

دِماءً وَيُعطي مالَهُ إِن تَبَسَّما

يَكُرُّ بِأَسلابِ المُلوكِ وَبِالمَها

وَبِالخَيلِ لا يَصهُلنَ إِلَّا تَحَمحُما

أَلا رُبَّ يَومٍ داجِنِ اللَّيلِ كاسِفٍ

تَراهُ مِنَ التَّأجيجِ وَالرَّهجِ مُظلِما

لَهُ رَهَجٌ عالي الزُّهاءَ كَأَنَّهُ

غَيابَةُ دَجنٍ ذي طَخاءٍ تَغَيَّما

تَرى حَدَقَ الأَبطالِ فيهِ كَأَنَّما

تُكَحَّلُ جادِيَّاً مَدوفاً وَعَندَما

3. قصيدة في الغزل: “إذ نحن نخبر بالحواجب بيننا”

إِذ نَحنُ نُخبِرُ بِالحَواجِبِ بَينَنا

ما في النُّفوسِ وَنَحنُ لَم نَتَكَلَّمِ

وَلَقَد رَأَيتُكِ في المَنامِ ضَجيعَتي

وَلَثَمتُ مِن شَفَتَيكِ أَطيَبَ مَلثَمِ

وَغَدٌ وَبَعدَ غَدٍ كِلا يَومَيهِما

يُبدي لَكِ الخَبَرَ الَّذي لَم تَعلَمي

وَالخَيلُ تَعلَمُ أَنَّنا فُرسانُها

وَالعاطِفونَ بِها وَراءَ المُسلَمِ

أَسلابُ يَومِ قُراقِرٍ كانَت لَنا

تُهدى وَكُلُّ تُراثِ أَبيَضَ خِضرِمِ

تَطَأُ الكُماةَ بِنا وَهُنَّ عَوابِسٌ

وَطءَ الحِصادِ وَهُنَّ لَسنَ بِصُيَّمِ

نَعصي إِذا كَسَرَ الطِّعانُ رِماحَنا

في المُعلَمينَ بِكُلِّ أَبيَضَ مِخذَمِ

وَإِذا الحَديدُ عَلى الحَديدِ لَبِسنَهُ

أَخرَجنَ نائِمَةَ الفِراخِ الجُثَّمِ

وفاة الفرزدق:

لم يتفق الرواة على العام الذي توفي فيه “الفرزدق”، ولكنَّهم جميعاً متفقون على أنَّه ناهز التسعين عاماً، ولم يُذكَر تاريخ واضح لوفاته، إلا أنَّ المصادر جميعها تجمع على موته إثر إصابته بداء الدبيلة؛ وهو واحد من الأمراض التي تصيب الجوف، وبحسب “البغدادي” أنَّ “النويري” قد قال في تاريخه إنَّ “الفرزدق” توفي عام 110، و”الأصفهاني” في كتابه “الأغاني” ذكر بأنَّه مات بعد يوم كاظمة عام 112.

في الختام:

كانت هذه سيرة حياة واحد من أهم شعراء العصر الأموي والشعر العربي عموماً، والذي على الرغم من مضي سنوات كثيرة على وفاته، ما تزال الألسنة تلهج بذكر شعره، وعلى الرغم من لسانه السليط والهجاء الذي سيطر على ملافظه بكثرة، إلا أنَّنا لا نستطيع إنكار العبقرية حتى في طريقة قدحه، فكانت العرب على حق حين كانت تتقي شرور لسانه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى