من هو جرير؟ نسبه وحياته وشعره

لقد توارث العرب قول الشعر جيلاً بعد جيل، وكانت البادية بطبيعتها الخلابة وحيواناتها ومناخها جواً ملائماً لإنبات بذرة شعرية قادرة على التأقلم في جميع الظروف، فلم يعُق انتشار الإسلام توارث هذه التركة؛ بل كان سبباً في إضافة موضوعات جديدة وتناص في مفرداتها وتراكيبها مع مفردات القرآن الكريم وتراكيبه.
بعد انتقال الخلافة إلى الخلفاء الراشدين، ومن ثم مجيء العصر الأموي والعباسي ثم الأندلسي، أصبح الشعر وعاء أفكار العرب، وطريقة من طرائق تأريخ الأحداث، فكان لكل حقبة زمنية سمة شعرية خاصة بها وشعراء أفذاذ.
الرومنسية مثلاً سمة الشعر الأندلسي الذي لا يسعنا ذكره دون أن نتذكر الشاعر “ابن زيدون”، كما كانت السياسة وموضوعاتها سمة الشعر الأموي، والذي برز فيه شعراء عدة مثل “الفرزدق” و”الأخطل” و”جرير”، وفي هذا المقال سوف نخصص الحديث عن شاعر من عباقرة الشعر الأموي وهو الشاعر “جرير”، فمن هو “جرير”؟
نبذة عن جرير:
الشاعر “جرير” الملقب بـ “أبي حرزة” هو “جرير بن عطية بن حذيفة الخطفي بن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن إد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان الكلبي اليربوعي التميمي”.
وُلد “جرير” عام 33 للهجرة الموافق لعام 653 للميلاد، وهو شاعر من أشهر الشعراء العرب في الهجاء، ولعل هجاءه المتبادل مع “الفرزدق” يُعَدُّ من أبرز أعماله الشعرية.
لم يكن “جرير” بارعاً في القدح فقط؛ بل كان بارعاً في المدح أيضاً، ويذهب بعض النقاد إلى كونه أشعر شعراء عصره؛ إذ قضى حياته في منافسة شعرية مع “الفرزدق” و”الأخطل”.
تميزت أشعار “جرير” الغزلية بالعفة، كما تميز قوله عموماً بحسن الديباجة، والتطوير في بنيان القصيدة المعنوي وتجديدها بعيداً عن الانسياق وراء الأقوال والأفعال المطروقة، وقيل إنَّ “جريراً” تمثَّل العفة في حياته، فلم يشرب الخمر قط، ولم يحضر في مجالس القيان، وعلى الرغم من ذلك لم يكن من المتظاهرين بالتدين أو المتعصبين للدين الإسلامي.
لم يرتضِ الشاعر “جرير” الضيم والظلم، فقد تميز بحميَّة وأنفة وعزة نفس ظهرت بجلاء في قصائده، أما أشعاره فقد تميزت بوضوح المعاني وفصاحة الألفاظ ومتانة السبك وسهولة التداول على الألسن والحفظ في الذاكرة، كما كانت سهلة الغناء.
حياة جرير:
الشاعر “جرير” هو واحد من أبرز شعراء العصر الأموي وفحولهم، وقد تميز بإنتاجه الشعري الغزير حتى قيل فيه إنَّه “يغرف من بحر”؛ أي كأنَّ له بحراً من الشعر يغرف منه لا ينتهي، وتناولت أشعاره كثيراً من الموضوعات، ولكنَّ الهجاء كان غالباً عليه.
نشأ “جرير” في البادية العربية، وكان لهذا تأثير كبير في فصاحته وشاعريته وتكوين ثقافته، وهذا ما تبدَّى لنا من خلال شعره، كما أنَّ بيئته الخاصة التي تربى فيها قد تركت أثراً واضحاً في نبوغه؛ إذ كان “الخطفي” جده، و”عطية” أباه، و”أم قيس” أمه، وكانوا جميعاً شعراء، فلا عجب إذاً من نشوء واحد من فطاحل الشعر ضمن هذه الأسرة الشعرية.
تأثر “جرير” بالإسلام تأثراً كبيراً كما هو واضح من شعره أيضاً، وعلى الرغم من كونه بدوياً، إلا أنَّه لم يكن أمياً قط؛ بل كان على قدر كبير من العلم والثقافة، ومن الجدير بالذكر أنَّ “جريراً” قد نشأ في بيئة فقيرة يرعى أغنام والده الذي يقال إنَّه كان أسوداً وبخيلاً، وقيل إنَّ كثيراً من الشعراء الذين تبادلوا الهجاء مع “جرير” عايروه بوالده.
تفتقت موهبة “جرير” الشعرية في سن العاشرة، وكان الهجاء أول ما قاله، وتحديداً كان هجاء للشاعر “غسان السليطي” في العام 41 للهجرة، وكان ذلك في عهد “معاوية”.
كان سبب الهجاء نشوب نزاع بين “بني سليط” و”بني الخطفي” على غدير ماء، فثارت حميَّة “جرير” على قومه وهجا “بني سليط” بأراجيزه رداً على “غسان” شاعر “بني سليط”، فتحول مسار الصبي راعي الغنم إلى شاعر فذ عبقري لا يُشق له غبار.
“جرير” باختصار هو فتى وُلد في البادية فنال من نقائها وعذوبتها إلى جانب البيئة التي تربى فيها، وهذا جعل شاعريته تتفتق، وعلى الرغم من تأثره الكبير بالإسلام، إلا أنَّ العصبية الجاهلية والحمية العربية سكنت لسانه، فنراه في المجالس بليغاً مقنعاً، وفي الهجاء سليطاً مقذعاً.
شعر جرير:
تميز شعر “جرير” بتنوعه وغناه، وعلى الرغم من الأقاويل عن تبادله الهجاء مع “الفرزدق”، إلا أنَّ الهجاء لم يكن موضوعه الشعري الوحيد؛ إذ مدح “جرير” الملوك وأنشد لهم بكل ولاء، وكتب في الغزل العفيف والرثاء والمدح والفخر، وبرع بشكل لافت في كل ما قال.
اخترنا لكم من شعر “جرير” هذه القصائد، وحرصنا على أن تكون موضوعاتها متنوعة علَّنا نوضح لكم براعته في كل قول:
1. قصيدة وجدانية “ألا حيِّ الديارَ وإن تعفَّت”:
أَلا حَيِّ الدِيارَ وَإِن تَعَفَّت
وَقَد ذَكَّرنَ عَهدَكَ بِالخَميلِ
وَكَم لَكَ بِالمُجَيمِرِ مِن مَحَلٍّ
وَبِالعَزَّافِ مِن طَلَلٍ مُحيلِ
وَقَد خَلَتِ الطُلولُ مِن آلِ لَيلى
فَما لَكَ لا تُفيقُ عَنِ الطُلولِ
وَإِن قالَ العَواذِلُ قَد شَجاهُ
مَحَلُّ الحَيِّ مِن لَبَبِ الأَميلِ
لَقَد شَعَفَ الفُؤادَ غَداةَ رَهبى
تَفَرُّقُ نِيَّةِ الأَنَسِ الحُلولِ
إِذا رَحَلوا جَزِعتَ وَإِن أَقاموا
فَما يُجدي المُقامُ على الرَّحيلِ
أَخِلَّايَ الكِرامُ سِوى سَدوسٍ
وَما لي في سَدوسٍ مِن خَليلِ
إِذا أَنزَلتَ رَحلَكَ في سَدوسٍ
فَقَد أُنزِلتَ مَنزِلَةَ الذَّليلِ
وَقَد عَلِمَت سَدوسٌ أَنَّ فيها
مَنارَ اللُؤمِ واضِحَةَ السَبيلِ
فَما أَعطَت سَدوسٌ مِن كَثيرٍ
وَلا حامَت سَدوسٌ عَن قَليلِ
2. قصيدة رثاء “لَعَمري قد أشجى تميماً وهدَّها”:
لَعَمري لَقَد أَشجى تَميماً وَهَدَّها
عَلى نَكَباتِ الدَهرِ مَوتُ الفَرَزدَقِ
عَشِيَّةَ راحوا لِلفِراقِ بِنَعشِهِ
إِلى جَدَثٍ في هُوَّةِ الأَرضِ مُعمَقِ
لَقَد غادَروا في اللَّحدِ مَن كانَ يَنتَمي
إِلى كُلِّ نَجمٍ في السَماءِ مُحَلِّقِ
ثَوى حامِلُ الأَثقالِ عَن كُلِّ مُغرَمٍ
وَدامِغُ شَيطانِ الغَشومِ السَّمَلَّقِ
عِمادُ تَميمٍ كُلِّها وَلِسانُها
وَناطِقُها البَذَّاخُ في كُلِّ مَنطِقِ
فَمَن لِذَوي الأَرحامِ بَعدَ اِبنِ غالِبٍ
لِجارٍ وَعانٍ في السَّلاسِلِ موثَقِ
وَمَن لِيَتيمٍ بَعدَ مَوتِ اِبنِ غالِبٍ
وَأُمِّ عِيالٍ ساغِبينَ وَدَردَقِ
وَمَن يُطلِقُ الأَسرى وَمَن يَحقُنُ الدِّما
يَداهُ وَيَشفي صَدرَ حَرَّانَ مُحنَقِ
وَكَم مِن دَمٍ غالٍ تَحَمَّلَ ثِقلَهُ
وَكانَ حَمولاً في وَفاءٍ وَمَصدَقِ
وَكَم حِصنِ جَبَّارٍ هُمامٍ وَسوقَةٍ
إِذا ما أَتى أَبوابَهُ لَم تُغَلَّقِ
تَفَتَّحُ أَبوابُ المُلوكِ لِوَجهِهِ
بِغَيرِ حِجابٍ دونَهُ أَو تَمَلُّقِ
لِتَبكِ عَلَيهِ الإِنسُ وَالجِنُّ إِذ ثَوى
فَتى مُضَرٍ في كُلِّ غَربٍ وَمَشرِقِ
فَتىً عاشَ يَبني المَجدَ تِسعينَ حِجَّةً
وَكانَ إِلى الخَيراتِ وَالمَجدِ يَرتَقي
فَما ماتَ حَتَّى لَم يُخَلِّف وَراءهُ
بِحَيَّةِ وادٍ صَولَةٍ غَيرَ مُصعَقِ
3. قصيدة هجاء “ما يُنسني الدَّهرُ لا يَبرح لنا شَجَناً”:
ما يُنسِني الدَّهرُ لا يَبرَح لَنا شَجَناً
يَومٌ تَدارَكَهُ الأَجمالُ وَالنوقُ
ما زالَ في القَلبِ وَجدٌ يَرتَقي صُعُداً
حَتَّى أَصابَ سَوادَ العَينِ تَغريقُ
أَينَ الأولى أَنزَلوا النُّعمانَ ضاحِيَةً
أَم أَينَ أَبناءُ شَيبانَ الغَرانيقُ
صاهَرتَ قَوماً لِئاماً في صُدورِهِمُ
ضِغنٌ قَديمٌ وَفي أَخلاقِهِم ضيقُ
قُل لِلأُخَيطِلِ إِذ جَدَّ الجِراءُ بِنا
أَقصِر فَإِنَّكَ بِالتَقصيرِ مَحقوقُ
لا تَطلُعُ الشَّمسُ إِلَّا وَهوَ في تَعَبٍ
وَلا تَغَيَّبُ إِلَّا وَهوَ مَسبوقُ
نَفسي الفِداءُ لِقَيسٍ يَومَ تَعصِبكُم
إِذ لا يَبُلُّ لِسانَ الأَخطَلِ الرِّيقُ
بيضٌ بِأَيديهِمُ شُهبٌ مُجَرَّبَةٌ
لِلهامِ جَذٌ وَلِلأَعناقِ تَطبيقُ
وَالتَّغلِبِيُّونَ بِئسَ الفَحلُ فَحلُهُمُ
فَحلاً وَأُمُّهُمُ زَلَّاءُ مِنطيقُ
تَحتَ المَناطِقِ أَستاهٌ مُصَلَّبَةٌ
مِثلَ الدَّوا مَسَّها الأَنقاسُ وَالليقُ
4. قصيدة غزل “ذَكرتَ ثَرى نَواظرَ والخِزامى”:
ذَكَرتَ ثَرى نَواظِرَ وَالخُزامى
فَكادَ القَلبُ يَنصَدِعُ اِنصِداعا
أُلامُ عَلى الصَّبابَةِ وَالمَهارى
تَحِنُّ إِذا تَذَكَّرَتِ النِّزاعا
رَأَينَ تَغَيُّري فَذُعِرنَ مِنهُ
كَذُعرِ الفارِسِ البَقَرَ الرِّتاعا
كَأَنَّ الرَّحلَ فَوقَ قَرا جَفولٍ
أَقامَ الماتِحانِ لَهُ الشِّراعا
ذَكَرتُ إِذا نَظَرتُ إِلى يَدَيها
يَدَي عَسراءَ شَمَّرَتِ القِناعا
سَما عَبدُ العَزيزِ إِلى المَعالي
وَفاتَ العالَمينَ نَدىً وَباعا
أَلَستَ اِبنَ الأَئِمَّةِ مِن قُرَيشٍ
وَأَرحَبَها بِمَكرُمَةٍ ذِراعا
فَقَد أَوصى الوَليدُ أَخا حِفاظٍ
فَما نَسِيَ الوَصاةَ وَلا أَضاعا
إِذا جَدَّ الرَحيلُ بِنا فَرُحنا
فَنَسأَلُ ذا الجَلالِ بِكَ المَتاعا
5. قصيدة مدح “يا عينُ جودي بدمعٍ هاجَه الذِّكرُ”:
يا عَينُ جودي بِدَمعٍ هاجَهُ الذِّكَرُ
فَما لِدَمعِكَ بَعدَ اليَومِ مُدَّخَرُ
إِنَّ الخَليفَةَ قَد وارى شَمائِلَهُ
غَبراءُ مَلحودَةٌ في جولِها زَوَرُ
أَمسى بَنوها وَقَد جَلَّت مُصيبَتُهُم
مِثلَ النُّجومِ هَوى مِن بَينِها القَمَرُ
كانوا شُهوداً فَلَم يَدفَع مَنِيَّتَهُ
عَبدُ العَزيزِ وَلا رَوحٌ وَلا عُمَرُ
وَخالِدٌ لَو أَرادَ الدَّهرُ فِديَتَهُ
أَغلَوا مُخاطَرَةً لَو يُقبَلُ الخَطَرُ
قَد شَفَّني رَوعَةُ العَبَّاسِ مِن فَزَعٍ
لَمَّا أَتاهُ بِدَيرِ القَسطَلِ الخَبَرُ
وفاة جرير:
بعد حياة مليئة بالشعر والقوافي والتصاوير والتشابيه، وحروب لغوية ومدائح ومرثيات، توفي الشاعر “جرير” في “اليمامة” التي وُلد ونشأ فيها، وكان ذلك عام 110 للهجرة و728 للميلاد، تاركاً وراءه إرثاً غنياً من القصائد بشتى ألوانها التي ما زالت الأجيال حتى اليوم ترددها وتتغنى بها.
في الختام:
كانت هذه لمحة عن حياة الشاعر “جرير” الملقب بـ “أبي حرزة” الذي لا يمكن ذكر اسم “الفرزدق” دون تذكُّره، ولا الحديث عن عيون الشعر الأموي دون تذكُّر قصائد شاعر مثله مبدع وخلَّاق وشديد الرقة في الغزل، وشجي الرهافة في الرثاء، وسليط اللسان في الهجاء، وجهور الصوت في المدح والافتخار.